كل الألوان
"فواز حسنين" .. هكذا سوف يهمس إليك وهو يقدم نفسه , وعندما تراه لابد أن تحبه , لأن فواز حسنين رجل لطيف .. وهو أيضا" "عايق " يشهد بذلك شعره المدهون بالفازلين و" الكاريه " الذى يعمله فى رأسه على طريقة " أنور وجدى " وكذلك الحزام الجلدى العريض الذى يلتف حول كرشه الضخم وتتوسطه " توكة " نحاسية مكتوب عليها " حب love بالإنجليزية " وأخيرا" الأحذية اللميع ذات البوز المدبب والكعب " كوباية " التى يؤثرها فواز بشكل خاص .. كل هذه موضات انتهت من عشرين عاما" – أيام كان فواز شابا"- لكنه مازال حريصا" عليها , وهو أحيانا" يستشعر فى نفسه مدى أناقته فتراه وهو يكلمك يتأمل توكة حزامه أو بوز جزمته بإعجاب وإرتياح , وفواز حسنين أيضا" مؤدب , مؤدب لدرجة تخجلك .. يكاذ يذوب من الأدب .. ما أن يراك حتى يهرول إليك مصافحا" , ينحنى أمامك بشدة وييقوس ظهره وكأن الود وده لو ينكمش جسده الضخم ويتضاءل احتراما" لوجود سيادتك ..وهو إذا تحدث إليك همس وسّبل عينيه وكور شفتيه الغليظتين ورققهما وكأنهما منقار عصفور صغير برىء .. لماذا لا تحب فواز إذن ؟ مع كل هذا الأدب وهذه الوداعة ,
الإجابة يعرفها " سكان حارة السكر والليمون " حيث تعود فواز أن يجلس فى مقهى على أول الحارة هؤلاء رأوا فواز وهو يتشاجر بالمطاوى والكراسى , حينئذ يمط شفتيه فى تحفز ويحدج غريمه بنظرة نارية ثم يستهل المعركة بسيل هادر من الشتائم التى تدور عادة حول الحياة الخاصة بوالدة الغريم .. هؤلاء لن ينسوا يوم أن تشاجر فواز مع الصول عبد الغنى عقب دور كوتشينة لعباه على فلوس .. يومئذ جمع فواز عيال الحارة ووقف معهم تحت بيت عبد الغنى عند شريط القطار .. وجعل ينشد بصوته الجهورى المشروخ والعيال يرددون وراءه فى مرح : " ياتخينة يا فشلة يا مارة العسكرى .. تاكلى بسلة وت … جمبرى " …
هذا هو فواز حسنين اذى يعرفه الناس فى الحارة .. لكنهم لا يعرفون كل شىء فلا أحد يعرف ماذا يعمل فواز ؟ أحيانا" يكون معه فلوس وفى معظم الأحيان يكون مفلسا" .. وفى ذلك الصباح كان فواز جالسا" فى المقهى كعادته يشرب الشاى بالحليب ويدخن البورى .. عندما مر أمامه صبى يحمل كلبا" صغيرا" على كتفه .. كان الصبى حافيا" ويرتدى جلبابا" قديما" ممزقا" .. أما الكلب فكان شعره أسود ناعم وشكله جميل وقد علقت حول رقبته شريطة حمراء بفيونكة …
- ولد .. تعال هنا ..
هكذا صاح فواز وقد برق فى ذهنه خاطر .. واقترب الولد وهو ينظر إلى فواز بخوف ..
_ من أين جبت الكلب ده ؟
سأله فواز بصوت رهيب ..
- من المعادى
- لا .. انت سارقه .. أنا حأوديك فى ستين داهية ..
هكذا صاح فواز ثم هوى بكفه على وجه الولد بلطمة عنيفة جعلته يلقى بالكلب ويطلق ساقيه للريح ..
أمسك فواز بالكلب وحمله بين يديه ( كان شكله غريبا" , بطنه متدل وأرجله قصيرة ووجهه مسحوب ) ثم أحضر له عظما" صغيرا" من عند الحاتى ليأكل وجلس يدخن البورى ويفكر
" ماذا يفعل بهذا الكلب ؟ " .
إنه كلب من المعادى ولاشك أن ثمنه غال وهو قد سمع مرة أن الكلاب من النوع البوكسر يصل ثمنها إلى مائة جنيه .. بعد تفكير وتأمل توصل فواز إلى الحل .. وبعد يومين ظهر فى الأهرام إعلان يقول " كلاب بوكسر للبيع جميع الألوان موجودة " ثم رقم التليفون فى المقهى ..
منذ الصباح جلس فواز بجوار تليفون المقهى يرد على مكالمات الزبائن ويصف لهم عنوانه فى حارة السكر والليمون .. وقبيل الظهر ظهر أول " مشترى " .. دخلت الحارة سيارة مرسيدس كبيرة سوداء ونزل منها رجل أشيب مهيب فى نحو الستين يرتدى معطفا" من الجوخ الأسود .. كان وجهه أحمر كالانجليز حتى أن فواز ظنّ لأول وهلة أنه خواجة .. هرع إليه فواز وتلقاه بأدبه الجم وقدم له مقعدا وأمر له بشاى بحليب وطبعا لم يعزم عليه بالبورى ..
ثم التفت إليه وقال وهو يبتسم ويسبّل عينيه ويكور شفتيه ..
- تحت أمر سيادتك
- والله أنا جئت لحضرتك بخصوص الكلب
ارتاح فواز لكلمة " حضرتك " ونهض فورا وعاد بعد لحظات حاملا" الكلب على كتفه .. وكان قد ربطه فى الداخل بجوار " نصبة " القهوة .. تلقف " البك " الكلب بعينيه قبل أن يمسكه وأخذ يداعبه وهو يتفحصه بيده الخبيرة .. وفى تلك الأثناء لم ينقطع فواز عن الكلام لحظة :
- الكلب ده يا فندم آخر كلب فاضل عندى .. أنا بعت ثلاثة وده الرابع .. سيادتك طبعا عارف إن البوكسر عزيز قوى اليومين دول .. ناس كتيرة عايزة بوكسر ومش لاقية ..
وفى حركة مفاجئة , مد فواز يده وأمسك بيد الزبون وقال : - تصدق بالله ؟! .. والله العظيم تلاتة بالله يا شيخ أنا قلبى انفتح لك والبوكسر ده من نصيبك .. إيه رأيك بقه ؟!
إبتسم " البك " وقال بهدوء ..
- أشكرك .. بس الكلب ده مش بوكسر
- إيه ؟!
هكذا صاح فواز مستنكرا وراح يلتفت حوله وكأنه يبحث عن أحد ينصفه من هذا الظلم ..
- يافندم عيب تقول كده ! الكلب ده بوكسر مية المية .. سيادتك بص كويس تلاقيه بوكسر .. أهوه .. بيقولك أنا بوكسر .. ده كلام برضه ؟! اتسعت ابتسامة " البك " .. كان واثقا" …
- يا أستاذ .. البوكسر غير كده خالص .. أنا بقى لى 40 سنة غاوى كلاب
- أمال ده جنسه إيه ؟!
هكذا دمدم فواز مذعنا" فى النهاية وهو يلعن فى سره الزبون والكلب معا وقد بدأت العشرون جنيها التى دفعها فى الإعلان تلح عليه وتؤلمه ..
- الكلب ده " بيكينوا "
- وماله .. يكون زى مايكون .. القصد .. تشتريه بكام ؟!
قال فواز بزهق وقد عزم على أن يتخلص من الكلب اللعين بأى ثمن ..
سكت " البك " لحظة وأخذ يتأمل الكلب بإعزاز .. وكأنما استشعر الكلب _ بشكل ما _ مايحدث فراح يقفز على " البك " ويمد بوزه ويلعق وجهه ..
- أنا أدفع 300 جنيه
كانت صدمة قوية استغرق فواز لحظة حتى استوعبها ثم علا صوته شاكيا ..
- ده يرضى ربنا برضه ؟! يا " بك " حرام عليك .. بقى كلب ( وهنا استعصى على ذهنه الاسم اللعين ) كلب متأصل زى ده وتقول لى 300 جنيه طب قول 700 أو 600 !
من هنا لهنا .. أخرج " البك " 350 جنيه عدهم فواز بين أصابعه بسرعة ثم طواهم بعناية وأودعهم جيب البنطلون .. حمل " البك " الكلب على كتفه وقد طفح وجهه بالسعادة وأوصله فواز حتى باب السيارة ثم انحنى وصافحه مودعا" وبعد ذلك اختفى ..
من يومها انقطع فواز حسنين عن الحارة والمقهى .. ولم يعرف أحد سبب غيبته .. حتى تردد بالأمس أن شبانا " من الحارة رأوه فى الصباح الباكر يتجول فى منطقة المعادى , يحوم حول حدائق البيوت , وما أن يلمح كلبا" فى الحديقة حتى يلقى إليه بعظم صغير من حقيبة يحملها ثم يكور شفتيه وينادى بصوت خافت : " بوبى .. بوبى .. تعال " .
إنتهت .