المدير العام Admin
الدولة : مصر المهنة : مدرس عدد المساهمات : 1285 تاريخ التسجيل : 06/01/2011 العمر : 51
| موضوع: صاحب المعروف ... قصة قصيرة بقلم / جمعه شيبه الجمعة 15 ديسمبر 2017 - 10:57 | |
|
صاحب المعروف.. ولأن المعروف لا ينسي ولا يمكن أن ينكره إلا جاحدا ، فعندما وقعت عيني عليه أثناء عودتي من عملي توقفت بشكل لا ارادي ، وكأن قدماي تسمرتا في مكانهما وقلبي أقسم ألا يبرح الأرض حتي تزول جميع أشواقه ، وأمطرني الحنين إلي الماضي الجميل بعنف، إنتابني شعور لا أستطيع ما حييت علي وصفه ، عبارة عن مزيج من الفرح والحنين ورغبة في الإعتراف بالجميل و........ وأشياء أخري أعجز حتي عن تحديدها ، إنه أستاذي في الإبتدائية ، أستاذي يوم كنت طفلا تشكله أيادي المربيين و الأيام في بداياته ، وها أنا قد صرت مدرسا بالمرحلة الثانوية من إثنا عشر عاما ولم أنسي،،ولن أنساه حتي لو مضي علي فراقنا ألف عام ،كلما وقفت أمام الطلاب تذكرته، أستاذي الذي لم أراه منذ الثلاثة والعشرين عاما التي مضت منذ وفقت بإقتدار في الصف السادس الإبتدائي علي يديه ، نعم نحو ما يقرب من ربع قرن من عمر الزمان باعدت فيه الظروف بيننا، لست أدري كيف إختفي عني كل تلك الفترة ،لقد إبتلعني قطار الحياة وإنطلق يطوي الأرض يعربد في قضبانها في إتجاهات شتي ،كم كان له عظيم الفضل علي وعلي رفاق دربي ، فقد تعلمنا علي يديه مبادئ كل شيء ، الكتابة والقراءة و الحساب والعبادة والحب والاحسان والصداقة والانسانية و........ وتعلمنا علي يديه الاعتراف بالجميل وشكر أصحاب الفضل علينا وتعلمنا علي يديه مبادئ الرجولة في الصغر وعلمنا من الاشياء مالم يتسع المقام لذكره ،لقد كان المعلم القدوة ومصدر كل سامي و نبيل. عالج فينا شتي أنواع القصور، قصور المعلمين الذين سبقوه و عالج إنشغال الآباء عنا طوال الوقت بحثا عن لقمة العيش ، وإهمال الحياة لنا .وعالج فينا شغب الطفولة الذي يذهب جمال براءتها أحيانا. كنا في مدرسة صغيرة منزوية بين القري في أدغال الريف ، بنيت من عشرات السنين ، كل طلابها أبناء لأسر لم يناالوا من التعليم إلا يسيرا وكانوا كأسنان المشط تحت خط الفقر سواسية ؛ ليس فيهم شطر الغني شارد ، مدرسة تفتقد أي إشراف إداري أو تربوي، وكأنها سقطت من حسابات وزارة التربية والتعليم ، فعامل البعد وصعوبة الوصول اليها حال بينها وبين أن يتولى أحد الاشراف عليها ، فكان لا يحرك المعلمين سوي ضمائرهم ووازعهم الديني إن وجد ، بينما كان الأستاذ علي عبارة عن وزارة شاملة بنفسه ، حيث إجتمعت فيه كل الصفات النبيلة ، والخصال الحسنة ، صفات المعلم القدوة والمربي الفاضل ، والصاحب الخلوق ، والاب الحنون والقائد الفذ ،كان يجادل فينا الصعوبات علي التعلم بكل ما أوتي من قوة،... وكنا نراه مصدر كل جميل.. توقفت وفي تلك الثواني المعدودات شطح بي الخيال فأقلني إلي ماضي الطفولة فتذكرت كل شيء ،وكأنه لم يمر عليه إلا يوم او بعض يوم، وهاجمني الحنين من حيث لا أحتسب وتفتحت وردة البكاء وتلقفتني مشاعر فياضة لا قبل لي بها. أما هو فكان قد تباعد عني خطوات معدودة.. استدرت وبشكل آلي ناديت : أستاذ علي فتوقف ثم استدار وولي وجه نحوي ورمقني بنظرة استطلاعية تفحصيه جريئة . ورفع يده ليشير بالسبابة 0علي نفسه ويسأل عما إذا كنت اقصده هو ام لا فحركت رأسي إيماءا بالإيجاب أخذ ينظرني طويلا وراح يحاول جاهدا التفتيش في سراديب ذاكرته ليعرف من أكون... هو يحاول استرجاع ماضيه الطويل بسرعة البرق ليعرفني ، يحاول جاهدا التقاط بقايا من ملامح الصبا في جنبات وجهي لم يغيرها الزمن لترشده من أكون، و بدأت انا اتفرس في ملامحه ، أفتش من حول التجاعيد علني أعثر على ثوابت ملامح الوجه الذي فارقته من زمن الطفولة ، انظر في أعماق عينيه لأعرف كل ما ألم به ، أراه لم يتغير كثيرا ، ولكنه صار نحيلا صغير القد ،و قد تركت تكاليف الحياة في وجهه العجوز بصمتها، ومالت بشرته القمحية صوب الاسمرار، ومسته يد الشيخوخة بقوة ، ،ويبدو أنه نال نصيبه الأوفى من جهد الحياة وتعبها.
ما أجمل لقاء غير متوقع بعد طول غياب ، إنها لحظة ترسم أحداثها في لوحة ربيع العمر، تفرح القلوب، لحظة فيها من الوفاء ما يروي الأحاسيس، تتناثر فيها أجمل الكلمات، وأرق التراحيب، واستعادة الذكريات التي يستحيل أن تعيد نفسها، فلا شك أنّ هذا اللقاء يبعث في القلوب ضياءها، ويرسم البسمة على الشفاه. أتذكر مجيئه من أجلنا إلي المدرسة من المدينة في شتاء الثمانيات في وحل القري وقد نقشت قطرات الطين بنطاله إلي قرب ركبتيه ، وجمد برد الصباح أنامله وحملت مقدمه رأسه نصيبها الوافي من ضباب المزارع ،وكان يظل طوال الحصة كبندول الساعة داخل الصف ذهابا و إيابا ،يعلمنا و يحفزنا ،ويشحذ من هممنا ، ويشد علي أيادينا، ويثني علينا، يقسو في حنان ، ويثور في حكمة ، وينصح في ود ، ويشرح في صبر ، ويتعب في رضي ، طبق فينا كل طرق التعليم ونظريات ووسائل التربية. وقطع الصمت الذي دام بيننا لثواني قائلا : أأنت تعرفني ؟ فقلت : نعم أنت أستاذي وتاج راسي.. أنت استاذي في الابتدائية ،انت من علمتني فأصبحت أستاذا. فبدت علي وجه ربكة المشاعر، وفرحة متعثرة تبدو وكأنها جاءت علي غير موعد، وأقبلت عليه أقبل رأسه وحاول عبثا منعي تواضعا ولكني تمكنت من ذلك عرفانا وإعترافا بجميل ما له عندي . ثم تعانقنا بود وتصافحنا بحرارة ولكنه كان يبدو كالمذهول ؛ فربما لم تسعفه ذاكراته بتذكري فأنا تلميذ من الآف التلاميذ الذين تتلمذوا علي يديه خلال فترة عمله ،وقد يكون الكبر محا جزءا من ذاكرة السنين الأولي وربما ....... وسأل مستغربا : أما زلت تتذكرني؟ فقلت : نعم ولن أنساك أبدا ما حييت فأنت صاحب فضل كبير علي ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله وعلي أثر قولي إنفجر بالبكاء كالرضيع، أخذه نحيب متواصل من أعماق نفسه وفاض في التو شلال دموعه الحارة علي خديه بغزارة ، احتضنته لأخفف من وطأته، و أشد علي يديه ليقوي علي ما هو فيه ؛ فسمعت أزيز أعماقه ، وضربات قلبه المتعالية ،ورعشة جوارحه التي هزتني معه، واختلط علي الامر ولم أدري هل بكي فرحا أم ألما أم شوقا وحنينا للزمن الذي ولي. وبرغم أني قد ربتني المصاعب علي الصمود منذ أن أخذ الموت أبي في زمن الطفولة وترك ظهري عاريا لرياح الحياة العاتية وعواصفها تعربدان فيه بلا رفق؛ ولكن للمآقي فيض إذا ما هزتنا المشاعر فلم يستطيع أحدا ايقافه، فقد بكيت ملء عينيي علي بكاؤه . لم أكن أدري ماذا يحدث ولكني شعرت وكأنه يعاني شيئا من الإهمال الحياتي كعادة جل من إستعنت الحياة عن خدماتهم و أحالتهم القوانين للتقاعد، و ربما إعترافي له بعظيم جميله وفضله في زمن قل من هم يعترفون بذلك ؛ هو ما حرك فيه مشاعر لم يقوي قلبه علي حملها ، بدأ وكأن في داخله بركان وجع خامد منذ سنين ؛ ولكنه انفجر علي التو حين وجد من مازال يذكره ويجله ويحترمه ويقدره حين تنساه الجميع ... وحاول جاهدا السيطرة علي بكاؤه المتواصل بميلاد فرحة حقيقية بدأت تظهر عليه رويدا رويدا كشروق الشمس، وتهلل لها وجه ودعا لي وشكرني مرار وتكرارا واحتضتنه مرة أخري بجميل ما له عندي وقبلت رأسه وخديه وعبرت له عن مدي سعادتي الغامرة بمقابلته وانصرفنا ليستكمل كل منا طريقه... وظل ما حدث عالقا في ذهني لساعات بعدها وكان مصحوبا بنشوة رائعة وفرحة عارمة لا يستشعرهما الا من عاشهما مثلي ،و لا أدري مصدرهما ولكني أوقن أن لقاؤه كان وجبة مشاعر دسمة أكبر من كل إحتمال، وعزمت في نفسي أن أصنع لصاحب المعروف معروفا وأزوره في بيته بعد أيام حاملا له هديه تليق به.. كم تمنيت لو أن الأمر طوع بناني لجمعت كل الأجيال التي تتلمذت علي يديه في كل القري وذهبنا اليه بالألاف حاملين شتي أنواع الهدايا عرفانا بصنعه , لنزرع في قلبه مليون فرحة ، ولكن ليس كل ما يتمني المرء يدركه. . وبعد يومين لا ثالث لهم ؛ كنت راجع من عملي كالعادة وبالقرب من المكان الذي قابلته فيه قبل يومين , سمعت سيارة بمكبر صوت تجوب شوارع المدينة , تخبر بأن الاستاذ الذي قابلته قبل يومين قد مات وتشيع جثمانه عصر اليوم... يا الله ...... لم تشاء لي الاقدار أن اقابله طيلة ما يقرب من ربع قرن ، لأقابله فقط قبل موته بساعات.....لم اكن أدري أن مقابلتي له طقوس وداع أبدي. شعرت وكأن قد حباني الله بهذا الأمر........رحم الله الطيبين وذهبت وشاركت في تشيع جثمانه الطاهر دون أن يعرفني من أهله احد ،ولم أعبأ بذلك ، وبكيت ملء قلبي ودعوت ربي أن يتغمده بواسع رحمته وأن يجزيه عنا خيرا . ولكني كنت أود أن أقول له يا صاحب المعروف لن انساك أبدا ما حييت ولن ينساك كل من أسديت له معروفا ؛ فصاحب المعروف لا ينسي...
بقلم / جمعه شيبه
| |
|