المدير العام Admin
الدولة : مصر المهنة : مدرس عدد المساهمات : 1285 تاريخ التسجيل : 06/01/2011 العمر : 51
| موضوع: تمزق .... قصة قصيرة بقلم جمعه شيبه الإثنين 18 ديسمبر 2017 - 16:36 | |
|
تمزق ....
وبرغم أني أعشق البقاء هنا...... فعليَ اليوم بلا جدال أن أودع وجه الوطن وأرحل...كأي شخص يحيا بين رغبتين متناقضين في نفس الوقت أو أكثر، والطائرة كالقطار و كالموت تأخذ بلا حذر ولا اكتراث..فهي لا تعي حنينا ولا شوقا ولا وطن ، غير أنها لا تنتظر أحدا. وكأنني ألبي رغبة لوجه الحياة التي تحيانا علي غير ما ارتضينا... فسلاما علي المغتربين والراحلين و من عاشوا العمر في المهجر..... أتساءل لأبث بقايا الرضا في نفسي قائلا: أوليس كلنا في عكس الاتجاه سائرون ...فمن يعيش تلك الحياة كما يرغب؟ وبغض النظر عن الدوافع والأسباب والأحلام والخطايا والصواب والمفروض والمكتوب وما نحب وما نكره وما نفعل وما نأمل أن يكون .....سأرحل.. سأرحل ولسان حالي يتمتم بعض من القول المأثور : والله لأنك أحب بلاد الله إلي ولوا أن الظروف أخرجتني منك ما....... وسأودع عما قريب علي غير رغبة أمي وإخواني وأبناءهم والجيران والأقارب وما بقي لي من الصحاب ها هنا .... سأودع المكان والزمان ومنتجع ذكريات الطفولة والصبا وبدايات الشباب وما كنت أحب وما أكره. وكما قالوا فليس كل ما يتمني المرء يدركه، وعادة ما تأتي الريح بما لا تشتهي السفن...وتأخذك قدماك للدرب الذي لست تهواه....دقائق وتبدأ طقوس الوداع كالعادة .....دقائق ويبدأ نزيف كل شيء...... وعندما لا تفي الكلمات بحال مشاعرنا نصمت ، لأن الصمت حينها أبلغ، ولكني سأملأ قلمي من حبر المشاعر لأحاول جاهدا أرويك ببعض مما شعرت به وقتئذ ، وسأترك لك الجزء الذي عجزت عنه لتحياه أنت كما تحب بنفسك.. وحقيقة إننا نعيش ما يقرب من ربع أمور حياتنا طواعية ،ونعيش ثلاثة أرباعها الأخرى رغم الأنف إجبارا، نعيشها بقوة التدافع التي غالبا ما يحملنا إلي شبح الاختيار الأوحد ، فتصبح في جل الأمور مسيرا.... فليس كل ما نقدم عليه نعشقه، ولا كل ما أدرنا إليه ظهورنا يوما لسنا نهواه...وجميعنا تعترينا من حين لآخر تقلبات مزاجية مزعجة ، تفقدنا كيمياء الانسجام وهرمون التوافق وبعض مقومات السعادة . وأنا اليوم أعيش خللا مزاجيا ليس في استطاعتي بحق الله أن أصفه ، أو حتى أقوي عليه ، حالة تعيشيني كلما اقترب الموعد الذي كان عليً فيه التأهب للرحيل ، حالة كرهت علي آثارها كل مفردات اللغات المتعلقة بالبعاد والفراق والدموع والودع والبكاء والرحيل والغربة ، أشعر بأنني شارد اللب متوتر، قلق وغير متزن، متقلب المزاج حيران ، موجوع من القلب حزين. وليس أسوأ من أن تقف علي شفير حنينك لتودع الأحبة للرحيل إلي عالم تعيش فيه حياة المضطر، تشعر كأنك تعبر منحدرا نحو الموت ، تترك الأرض والمزاج والوجوه التي ألفتها إجبارا وتذهب إلي حياة استثنائية ، تعيشها علي أمل أن تأتيك نهايتها ، حياة تعد ساعاتها وأيامها ولياليها ، يتبدل فيك كل ما كنت تألفه، ساعة من العمر هي من أتعس ساعاته علي الإطلاق ، أكذب فيها علي الجميع وعلي نفسي كذب صريح ، وأشعر بقيمة القرب وقتها شعور المادي المتجسد ، فعادة لا نشعر بالشيء إلا حين نفقده ، وعلي غالب الظن لا تشعر بما أقول وسيهون عليك الأمر ما دمت عنه بعيدا ولكن عندما تعيشه سيتبدل كل شيء، فالوداع نار لا يشعر به إلا من عاشه وأكتوي بحر ناره ،إنه معني أخر للاحتضار علي أثر جرح قلب غائر قديم لا يرجي شفاؤه ، إنه بمثابة إعلان الحرب علي الحنين القاطن بداخلك ، أحاول عبثا أن أتوكأ علي بقايا عزيمة هشة اصطنعتها لنفسي من مبررات واهية لا ترتقي حتى لمستوي قناعتي ، مبررات مبتورة تشرح مدي احتياجي للسفر، بدأت كالعادة ألملم حاجاتي وحقائبي وأولادي وأشياء لست أدركها إنما بحكم العادة مثلما يحدث كل عام ، وأحاول عبثا تجميد إحساسي و إدعاء شيئا من القوة والتماسك لست أملكه، وأقف علي قمة مشاعري لأودع كل ما ألفت.. أمي وإخواني والوطن، اتركهم بمصر للرحيل للعمل بإحدى بلدان الخليج ؛ طمعا في مستقبل مادي أفضل ، أمي وما أدراك ما أمي ، تلك العظيمة التي ناهزت بضع وسبعون خريفا ، وانحني ظهرها علي أثر ما عانته في حياتها من أجلنا ، بعد أن أخذت المنية أبي من بضع وثلاثون عاما ، أمي التي تزداد في العام ألف عام ، كم أخشي عليها من زحف شبح الموت الذي يزور الطيبين فجأة ، هي الأخرى تحاول عبثا إخفاء مشاعرها وتتهرب من دموعها التي لو سالت لأغرقتها ، أتحاشى النظر بعينيها الذكيتين كي لا أتوه من نفسي ، كم كنت أود بقائي العمر بجوارها ولا أرحل ، فقد ورثت منها إحساسها العائلي الدافئ وعشقي للزمان والمكان وتقديس الذكريات ، وحظيت بالقدر الأكبر من صفاتها من بين أخوتي، والتي رفعت من وتيرة التشابه بيني وبينها في كل شيء إلي حد التطابق ، تفهمني دون كلام ، وتحسني إذا ما تألمت رغم البعد دون عناء ، وأري ما في قلبها إذا ما نظرت في عينيها ، ساعة وداعي مأساة لا يقوي عليها القلب منذ ما تعود علي الرحيل من بضع سنين، ساعة أتمزق فيها ألاف المرات ، لحظات أنزف فيها كل مخزون الصمود لدي ، أتظاهر بأنني جبل ولكني أكون في الحقيقة شيئا من سراب يحسبه المخدوع صخرا ، وبنات أخي الأربعة مهما كبرن فهن صغيرات بعيني ، لا يقوين علي ألم الفراق وقهره ، بيني وبينهن حنين تخونني الكلمات في شرحه ، أري عيونهم كقطع الماس يلمع الحزن فيها بشدة..... صدق من قال أن الحزن عيون أنثي .. منزرع أنا في وسطهم والكل يتأهب في حذر، يكتم بداخله ما بها ؛ وكأنه لا يريد أن يكون مفجر لغم أشواق الوداع ، وكأن الجميع في انتظار أول دمعة تذرفها عيني ، ليسبح الكل في دموعه وصوت نشيجه بلا اكتراث، أوليس بداية الغيث قطرة ؟ ، أوليس معظم النار من مستصغر الشرر..؟ هي البداية التي تأخذ الجميع إلي منعطف النفس الحزين ، وأنا أجادل دموعي وأرجوها عبثا أن ترأف بي وبمن حولي .. ولكن لملح العين فيض لابد وأن تجود به إذا ما هزنتنا المشاعر يوما...ناهيك عن المتباكين علي البكاء..هم من يزيدون الأمر حدة أحيانا ، هم ممن جمعتهم بنا مصاهرة أو قرابة أو نسب أو صلة رحم ، وكأنهم يتحركون وفق مبدأ من حضر القسمة فليقتسم .. أقبل الوجوه وأصافح الأيدي وأحتضن الجميع دون أدني تركيز، لا أعرف من أين بدأت ، ولا إلي أين سأنتهي ، أتحاشي النظر في العيون فعيني لا تحتمل ، أتحرك في عجالة وذروة مأملي أن أنهي مأساة قلبي التي تتفاقم رويدا رويدا، أزيح عني ذلك العناء العقيم الذي يثقل كاهلي ، وأمي تقف علي مقربة منا تفرك أناملها من فرط الآسي ، تصرخ في صمت وتستجمع ما بقي لديها من قوة ، هم يرونها ولكني أنا فقط من أحسها وأسمعها بجميل مورثوها عندي ، تبقي هناك لتحتضنني في النهاية وكأنها حرصت علي أن تكون أخرمن يقبلني وحظيت بحضنه ، كم أخشي عليها من ..... يا ربي..! ثم أذهب إليها لأغوص في أعماق حضنها الدافئ ، فهنا فقط أجد نفسي ، وأشعر بما يعجز الوصف عن وصفه ، هنا أشعر بأنني طفل ، محتاج رعاية الأمومة من جديد ، هنا واحة الراحة التي لا تنتهي... أقبل وأحضن وأبكي ملء عيوني وقلبي وأنزع نفسي من بين ذراعيها وأرحل... وأعلم بعد خطوات أنه ستبتلعني المسافات والمطارات والبعاد والهموم والمهام والأفكار والنسيان والأوهام والأوجاع والأحلام وطيف أمي ، لأعيش ما شاء الله لي علي أمل أن أرجع وأمحو غبار حزني بفرحة اللقاء ثانية.... نبتعد وكأن الفراق قد سحب بساط السعادة علي حين غفلة من تحت أقدامنا، و نشعر وقتها بآلاف الأشياء والمشاعر التي لا تعد ولا تحصي .... إلى هنا و على حافة هذا الألم يحلو الصمت..... ونفتقد القدرة عن الكلام فقد قال الإحساس كل ما عنده .... بقلم جمعه شيبه
| |
|